روح النص القانوني بين الدلالة الآمرة والمفسرة
د. عبد اللطيف القرني - جريدة الإقتصادية
يختلف التعامل مع النص القانوني ومساحة تطبيقه لاختلاف مسار الحركة بين الواقعة والنص، فالنص له شكل خارجي ورح جوهرية، وقد يكون هناك تباعد بين الشكل وبين الجوهر الحقيقي الذي أنشئ القانون من أجله، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تأمل كافة القوانين عموما والقانون الذي ورد فيه النص بالخصوص، فالأبواب والنصوص توحي إلى معانٍ عامة، ومن خلالها يكون هناك ترابط بين المعاني التفصيلية والإجمالية، وهذا ما يفسر اكتشاف روح النص عند وجود خلاف في تحديد الدلالة بدقة، أو عند وجود واقعة استثنائية تجعل تطبيق النص القانوني مجافيا للعدالة، ولا شك أن الصيغة هي العامل الأساسي في اكتشاف روح النص، وهل المعنى فيه آمر أم مفسر. فالصيغة التي يختارها المشرع لإيصال الحكم الذي شرعت القاعدة القانونية – سواء كانت آمرة أو مفسرة – من أجله وتحديد نوعه، لها دور مهم في إظهار العلاقات السياقية بين مكونات النص القانوني، وجذب دلالات هذه المكونات بعضها إلى جانب بعض على سطح النص القانوني، مما يدعم تماسكه وترابط روح النص؛ ذلك أن جمل هذا النص إنما تتركب من ألفاظ تحمل المعنى القانوني وتؤديه، وهذه الألفاظ ليس الغرض منها معانيها في ذاتها، ولكن معانيها بضم بعضها إلى جوار بعض، بحيث تتشابك وتتفاعل فيما بينها من أجل الوصول إلى معنى دلالي واحد، هو غرض المشرع من سن القاعدة القانونية بمعنى (روح النص) فالنص القانوني يكون واضحا عندما يكون متماسكا في صيغة واضحة، إذ يستخلص الحكم القانوني من العبارات التي صيغت لها، ولذلك رتب المشرع على الصيغة نتائج وآثارا قانونية، كما رتبها على دلالة النص القانوني، فاللفظ هو العبارة، أي: الصيغة التي حملت الحكم القانوني، وهي بلغة الأصوليين منطوق النص، والفحوى هي بنية النص الدلالية، أي: روحه ومفهومه.
ومن الإبداع القانوني ما قررته المحكمة الدستورية المصرية – في مجال استظهار المقاصد التي رمى المشرع إلى بلوغها من وراء إقراره حكما معينا – إلى أن “العبارة التي صاغ المشرع بها النص التشريعي في سياقها، ومحددة على ضوء طبيعة الموضوع محل التنظيم التشريعي، والأغراض التي يتوخاها، هي التي يتعين التعويل عليها ابتداء، ولا يجوز العدول عنها إلى سواها إلا إذا كان التقيد بحرفيتها يناقض أهدافا واضحة مشروعة سعى إليها المشرع”.
والنصوص القانونية ضروب مختلفة؛ منها النصوص الآمرة، وهذه يجب أن تكون في أسلوب حازم قاطع، ومنها النصوص المفسرة أو المقررة، وهذه يكون أسلوبها مرنا رخوا يتفق مع الغرض الذي وضعت من أجله.
وقد بلغ الأمر في وجوه التمييز في الأسلوب بين هذه الأنواع المختلفة من النصوص -كما يقرر الفقيه السنهوري- أن طلب مجلس الدولة الفرنسي عند وضع التقنين الفرنسي أن يكون أسلوب النصوص الآمرة بصيغة المستقبل، وأسلوب النصوص المفسرة بأسلوب الحاضر.
ومرجع ذلك إلى أن ثمة اختلافا لدى فقهاء القانون حول أساس الإلزام في القانون، فالشكليون منهم يعتدون بالشكل الذي تخرج به القاعدة القانونية إلى الوجود في صورة ملزمة، فيرجعون تكون القاعدة القانونية إلى السلطة التي اكتسبت عن طريقها قوة الإلزام في العمل، ومن أنصار هذا الاتجاه الفقيه الإنجليزي (جون أوستن) الذي ذهب إلى أن أساس القانون هو أمر توجهه الهيئة الحاكمة إلى المحكوم عليهم وترفقه بجزاء، وأن المصدر الوحيد للقانون هو التشريع المكتوب الذي يتضمن أمرا أو نهيا صادرا من السلطة وموجها إلى المحكوم عليهم، وتفسير نصوص هذا التشريع يجب أن يتجه إلى الكشف عن إرادة المشرع التي قصد أن يضمنها هذه النصوص، إذ العبرة بالنية الحقيقية للمشرع، ولا عبرة بتغير الظروف التي وضعت فيها النصوص.
أما الموضوعيون من فقهاء القانون فينظرون إلى الجوهر لا إلى الشكل، فيعتدون بالمادة الأولية المكونة لجوهر القاعدة القانونية وينفذون إلى طبيعتها، ومن أنصار هذا الاتجاه الفقيه الفرنسي جيني.
ومفاد ما تقدم أن القواعد القانونية تنقسم – من حيث مدى سلطان الإرادة تجاهها، أي: قوتها في الإلزام – إلى:
1) قواعد قانونية آمرة: وهي القواعد التي لا يجوز للأفراد مخالفتها، أو الاتفاق على عكسها بالنظر إلى أن المشرع استهدف من حكمها حماية المصلحة العامة التي تتعلق بالنظام العام.
ومن ذلك: القواعد القانونية التي تمنع ارتكاب الجرائم، كالقتل مثلا، فهي قواعد آمرة يلتزم الأفراد باحترامها، ولا يصح لهم الاتفاق على مخالفتها.
2) قواعد قانونية مفسرة (أو مقررة أو مكملة): وهي القواعد التي يجوز للأفراد أن يخالفوا حكمها، وإذا ما اتفقوا على مخالفة هذا الحكم كان اتفاقهم صحيحا.
وتطبق هذه القواعد إذا لم يتفق ذوو الشأن على عكسها أو سكتوا عن التعرض لموضوعها، فلم يستهدف المشرع منها حماية المصلحة العامة وإنما حماية المصلحة الخاصة لذوي الشأن. ومن ذلك مثلا ما ورد في لائحة الإيجار التمويلي في المادة الرابعة:
(للمؤجر التنازل عن حقوقه المترتبة على العقد دون موافقة المستأجر إلا إذا نص العقد على خلاف ذلك).
إن فهم علم الصياغة القانونية وضبطه يسهم في صياغة قوانين متجانسة بين لفظها والروح المعنوية للنص، مما يجعل تطبيقه أقرب للعدالة، وفي حالة وجود مقتضيات تمنع تطبيقه لقيام معنى قانوني أقوى عندها يفقد المعنى السابق مجال تطبيقه، لقيام معنى أقوى مثل الإلزام بعقد الإيجار، والمضي فيه مع قيام حالات طارئة يقدرها القاضي لحظة تطبيق القانون الخاص بين المتعاقدين الذي هو العقد، وهذا مقرر في الشريعة الإسلامية، فعمر رضي الله عنه أسقط حد السرقة لقيام معنى أقوى، وهو الحفاظ على النفس، وهذا هو النظر إلى روح التشريع.
نسأل الله التوفيق للجميع.
المصدر : جريدة الإقتصادية - الخميس 09 ذو القعدة 1435 هـ. الموافق 04 سبتمبر 2014