يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل - جريدة الرياض

عدد القراءات: 1025

الاختلاف بين البشر أمر وجودي، سنني، لا مجال للتأثير عليه، ناهيك عن إلغائه. لقد جاء ذلك في محكم التنزيل في قوله تعالى: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك…”.

ولقد يلحظ المهتم أن الحق تعالى عبَّر عن (وجودية) هذا الاختلاف باستعمال الفعل المضارع (لا يزالون)، وهو فعل يفيد الاستمرارية في الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا يعني أن الاختلاف بين البشر، دينيا ومذهبيا وعرقيا، وكل أنواع الاختلاف، كما كان حاضرا في الماضي، فهو موجود الآن في الحاضر، وسيستمر في المستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن ثم، لا مجال، والوجود هكذا على ما طبعه الله عليه من الاختلاف، لأن يسعى فرد أو مذهب أو جماعة ما، إلى قصر الناس على رأيهم أو مذهبهم أو دينهم، لأن ذلك مما قضى الله فيه أمره منذ الأزل، بأنه لم يكن ولن يكون أبدا.

ولقد كان السلف رحمهم الله أكثر وعيا من خلفهم ب(وجودية) ومركزية الاختلاف بين البشر، حتى على مستوى الأديان والمذاهب، وهي المسائل الأكثر حساسية للوعي الديني. يقول إمام المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري، في تفسير قوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، :”وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم أيها الأمم جعلنا شرعة ومنهاجا”. ولذلك، أعقب الله تعالى إخباره بأنه جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا، بقوله:(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة).

ولقد نندهش نحن الخلف إذا علمنا أن سلفنا الصالح كانوا أقل حساسية منا فيما يخص التعايش مع اختلاف الآراء والتأويلات والتفسيرات، حتى على مستوى أكثر المسائل حساسية للوعي الديني. فتراهم، برغم أنهم يختلفون مع آخرين في أقوالهم وآرائهم وتفسيراتهم، بل ربما لا يقرونها بالجملة، إلا أنهم ينقلونها، ويثبتونها في مدوناتهم من منطلق التعايش مع الرأي المخالف من جهة، وحقه في أن يُسمع رأيه ويذاع، رغم مجافاته ربما للصواب، من جهة أخرى.

ينقل الطبري مثلا اختلاف المفسرين في تفسير قوله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها”، ومنها ما نقله عن سعيد بن جبير، وعن غيره من التابعين، أنهم رووا عن ابن عباس أنه كان يقرأ الآية: “لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها، وأنَّ (تستأنسوا) وهم من الكتاب”. كما نقل عن إبراهيم النخعي قوله: “إنها في مصحف ابن مسعود: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا”. وبطبيعة الحال، ووفقا لاتساع أفق الطبري، فإنه لا يُغفل التأويلات الأخرى للآية، في مقابل التأويلات التي لا يوافق أصحابَها عليها، فيأتي بتأويل آخر للآية يرى أن معناها:”حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبه ذلك، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم”.

هكذا لا ينطلق إمام المفسرين من أي حساسية، أو انغلاق، أو تشدد، مع أشد أنواع الآراء المخالفة في تفسير النص القرآني، والتي منها من رأى أن “تستأنسوا وهم من الكتاب”، برغم أن ذلك مخالفة صريحة لظاهر قوله تعالى:”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.

ونحن إذ نأتي بهذه الأقوال المخالفة، بل المتطرفة في تفسير تلك الآية، فإننا لا نقر أصحابها عليها، حتى وإن كانت مقولات يُزعم أنها لفضلاء التابعين، ممن ينقلون عن صحابة أجلاء، لكنا قصدنا من ذلك أن السلف رحمهم الله، وابن جرير أحد أبرز هؤلاء، كانوا لا يتعاملون مع الآراء المختلفة، بل المخالفة أشد الخلاف، بحساسية كحساسية الخلف، حين يشعرون أنهم، لا بإيرادهم الآراء المخالفة فحسب، بل بمجرد سماعها من آحاد الناس، إنما يهدمون الدين والقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد كان السلف يؤمنون إيمانا تاما بسمو الإسلام والقرآن، وتعاليه على كل الآراء والإيديولوجيات المخالفة، حتى تلك التي تحاربه في أخص خصائصه، فالإسلام والقرآن وصحيح السنة عند السلف راسخة رسوخ الجبال، ولا يضرها أن يسمع المسلمون، بل ويتعايشوا مع أكثر الآراء والتأويلات تطرفا.

إن القرآن الكريم نفسه تعامل مع أشد الإيديولوجيات المحاربة له ولرسوله من منطلق حق الآخر في إبداء رأيه، فنجده لا يستنكف أن يأتي بأقوال المنكرين له، والنافين لتعاليه الإلهي. بل إنه يأتي حتى بأقوال المستهزئين بالذات الإلهية، وبالرسول صلى الله عليه وسلم.

إن من أبرز مظاهر حرية التعبير في العصور الكلاسيكية الإسلامية، أنها تحتفي بالمخالفين والمختلفين حتى من خارج الدين الإسلامي. لا، بل إنها كانت تسمح حتى للملحدين واللادينيين بأن يمارسوا حريتهم في طرح مقولاتهم، فتناقش وتنتقد وتنقض في جو حرية تعبير يحلم الخلف أن يعيش في جزء منها.

يذكر المرحوم الدكتور: محمد عابد الجابري في كتابه (المثقفون في الحضارة العربية)، مشهدا من مشاهد حرية التعبير إبان العصر الزاهي للحضارة الإسلامية، فيقول: إن المفكرين والفلاسفة الذين كانوا يجتمعون للمناقشات الفكرية كانوا “من ديانات مختلفة، فإذا كان غالبيتهم من المسلمين، فإن جل المناطقة والأطباء والمهتمين بالعلوم القديمة كانوا مسيحيين، ك(يحيى بن عدي، وعيسى بن علي، وابن زرعة، وابن الخمار). بل إن فيهم المجوسي والصابئ والملحد. وهم على هذا التنوع والاختلاف عاشوا في جو من الحرية الفكرية والتسامح الديني قل نظيره. فلقد طُلِب مثلا من أبي إسحاق بن هلال (الصابئ) أن يعتنق الإسلام فامتنع، فتُرك وشأنه. كما ألف يحيى بن عدي، علاوة على ترجماته ومؤلفاته في المنطق والعلوم والأخلاق، عدة مقالات ورسائل وكتب في الدفاع عن العقيدة المسيحية ضد انتقادات المتكلمين الإسلاميين، أو ضد الفرق المسيحية الأخرى التي تخالف فرقته، حيث كان يعقوبي المذهب”.

في مقطع حواري قصير بين أبي حامد الغزالي وداعية باطني، أورده أستاذ تاريخ الفلسفة، المغربي (عبدالسلام بنعبدالعالي)، يقر حجة الإسلام بأنه لا مجال لجمع الناس على رأي أو مذهب واحد، لأنهم مختلفون بحكم الضرورة الأزلية. ولقد دار الحوار على النحو التالي:

الداعية الباطني: “هل يمكنك أن تعرّف جميع الحقائق والمعارف الإلهية لجميع الخلق، فترفع الاختلافات الواقعة بينهم؟”.

الغزالي: “هيهات لا أقدر عليه، وكأن إمامك المعصوم قد رفع الاختلافات بين الخلائق وأزال الإشكالات عن القلوب. بل اختلاف الخلق ضروري أزلي، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك”.

الداعية الباطني: “كيف نجاة الخلق من هذه الخلافات؟”

الغزالي: “إن أصغوا إليّ رفعت الاختلافات بينهم، ولكن لا حيلة في إصغائهم، فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء، ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إليّ، وكيف يُجمِعون على الإصغاء وقد حُكِم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك؟”.

ولفخر الدين الرازي قصة مشابهة في التعامل مع آراء المنكرين لوجود الجن، فلنؤجل الحديث عنها إلى المقال القادم.

المصدر : جريدة الرياض - 7-10-205